تهديد الديمقراطية: ما أبعاد الخلافات المتصاعدة بين السلطة والمعارضة في السنغال؟
لم تَكُن التظاهرات المستمرة من قبل المعارضة السنغالية، التي كانت آخرها مسيرة زعيم المعارضة “عثمان سونكو”، التي جرت يوم 28 مايو 2023 وانتهت بتدخل الشرطة وحدوث اشتباكات بينها وبين أنصار “سونكو”، سوى تعبير عن التحولات الراديكالية في المشهد السياسي السنغالي الداخلي خلال الآونة الأخيرة، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في مطلع العام المقبل، التي ترتبط في الأساس بتوتر العلاقات القائمة بين النظام الحاكم بقيادة الرئيس “ماكي سال” والمعارضة السياسية؛ حيث تتهم الأخيرة النظام الحاكم بالسعي لإقصاء زعيمها “عثمان سونكو” من أجل تأمين بقاء واستمرار النظام الحاكم في سدة الحكم لولاية رئاسية ثالثة على نحو يخالف البنود الدستورية. ويفرض هذا الواقع المحتدم مخاطر متعلقة باستمرارية التجربة الديمقراطية في السنغال، التي تصنف من بين التجارب الأكثر استقراراً في إقليم غرب أفريقيا. وفي ضوء ما سبق، تفرض الخلافات القائمة بين الطرفين العديد من الدلالات الحاكمة، كما قد ينتج عنها تداعيات محتملة في المستقبل المنظور.
دلالات حاكمة…
ثمة العديد من الدلالات الحاكمة لطبيعة الخلافات القائمة بين الرئيس الحاكم “ماكي سال” والمعارضة السياسية، وقد يكون من أبرزها ما يأتي:
1– تبلور مخاوف من ترشح الرئيس في الانتخابات المقبلة: تجسد ذلك بالأساس في خشية المعارضة السياسية إعلان الرئيس الحاكم “ماكي سال” ترشحه لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في فبراير 2024. وتتنامى هذه المخاوف في ضوء عدم إفصاح الرئيس حتى تاريخه عن موقفه النهائي بشأن خوض غمار هذه الانتخابات، وكذلك رفضه المزاعم التي تذهب في اتجاه القول بعدم دستورية ترشحه في هذه الانتخابات؛ وذلك على الرغم من توليه ولايتين رئاسيتين متتاليين منذ عام 2012، وهو ما يمثل الحد الأقصى لعدد الولايات الرئاسية المسموح بها بموجب تعديل دستوري جرى في عام 2016، حدد مدة كل ولاية رئاسية بخمس سنوات فقط. وفي ضوء ما سبق، تخشى المعارضة من احتمالية توظيف الرئيس لهذا التعديل كنقطة بدء لحساب عدد الولايات الرئاسية المحددة، وهو ما قد يسمح له بخوص غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة.
2– تشكيل المعارضة تحالفاً موسعاً لمواجهة النظام الحاكم: تبلور ذلك في قيام أكثر من (120) حزباً سياسيّاً ومنظمةَ مجتمع مدني بالتوقيع على ميثاق تأسيس حركة تعرف باسم “إف 24” في 16 أبريل الماضي؛ وذلك قبل عشرة أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية. وتعد هذه الحركة بمنزلة تحالف لمعارضة الترشح المحتمل للرئيس الحالي “ماكي سال” لولاية رئاسية ثالثة؛ حيث دعت الحركة الرئيس إلى احترام ضوابط الدستور بشأن عدد الولايات الرئاسية، كما طالبت بالإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين اعتقلهم النظام الحاكم خلال التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها الدولة خلال الأشهر الماضية، على خلفية بعض التهم الموجهة إلى زعيم المعارضة السياسية “سونكو”.
3– اتهام المعارضة للرئيس بتوظيف القضاء لإقصائها: تجسد ذلك في الملاحقة القضائية لزعيم المعارضة السياسية “سونكو” على خلفية تورطه في قضيتين رئيسيتين خلال الآونة الأخيرة؛ أما الأولى فتتعلق بقضية التشهير التي رفعها ضده وزير السياحة “مامي مباي نيانج”؛ بسبب اتهام الأخير له بالاختلاس، وهي القضية التي أصدرت المحكمة بشأنها حكماً عليه بالسجن شهرين مع وقف التنفيذ في نهاية مارس الماضي، كما أمرته بدفع مبلغ مقدر بنحو (200) مليون فرنك أفريقي؛ أي ما يعادل (332 ألف دولار)، وقد أيدت محكمة الاستئناف في السنغال الغرامة المالية المقررة، وزادت مدة السجن إلى ستة أشهر مع وقف التنفيذ في 8 مايو 2023.
وتتعلق القضية الثانية باتهام زعيم المعارضة السياسية “سونكو” بتهمة اغتصاب موظفة صالون تجميل في العاصمة “داكار”، وتوجيه تهديدات لها بالقتل في عام 2021، وهي القضية التي قضى المدعي العام في السنغال فيها بالحكم عليه بالسجن لمدة (10) سنوات؛ وذلك في 24 مايو 2023، وهو ما من شأنه التأثير على أهليته الانتخابية باعتباره مرشحاً محتملاً لتمثيل المعارضة السياسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في مطلع العام المقبل. وقد سبق لزعيم المعارضة “سونكو” خوض غمار المنافسة الانتخابية في عام 2019، التي احتل فيها الترتيب الثالث بين باقي مرشحي الانتخابات الرئاسية.
4– انسداد أفق الحوار السياسي بين الرئيس والمعارضة: فعلى الرغم من إعلان الرئيس “ماكي سال” انفتاحه على الحوار والتشاور مع مختلف القوى السياسية فيما يتعلق بسيادة القانون ومؤسسات الحكم في الدولة؛ وذلك خلال كلمة ألقاها أمام الشعب السنغالي بمناسبة الذكرى الـ(63) لاستقلال البلاد في مطلع أبريل الماضي، فإنه لم يُدْلِ بأي تصريحات متعلقة بحسمه قرار خوض الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وهو ما يفاقم صعوبة فتح قنوات تواصل مع المعارضة السياسية، ولا سيما في ضوء إعلان الأخيرة تمسكها بشروط مسبقة للانخراط في أي مباحثات أو مشاورات سياسية مع النظام الحاكم؛ وذلك في مايو 2023، وتتمثل أساساً في إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، والتخلي عن ترشيح ثالث غير قانوني للرئيس “سال”، فضلاً عن الالتزام بتنظيم انتخابات حرة وشفافة وشاملة بمشاركة جميع الفاعلين السياسيين.
تداعيات محتملة
ثمة العديد من التداعيات المحتملة في الآونة المقبلة نتيجة تنامي الخلافات بين الرئيس “ماكي سال” والمعارضة السياسية، وتتمثل فيما يلي:
1– تزايد حدة الاحتجاجات من المعارضة السياسية: يعزز من احتمالية ذلكالعديد من الشواهد الدالة، ومن أبرزها حث زعيم المعارضة السياسية “عثمان سونكو” أنصاره على التحرك في مسيرة حاشدة نحو العاصمة “داكار” من خلال أحد التجمعات الحاشدة التي أقيمت أمام منزله في مدينة “زيجينشور” الجنوبية في أواخر مايو 2023، وهي المسيرة التي أعلن من خلالها عن وضع الرئيس “ماكي سال” أمام اختيارين؛ أما الأول فيتمثل في ضرورة تراجعه عن الترشح للرئاسة المقبلة. وأما الثاني فيكمن في مواجهة الرئيس للتخلص منه بشكل حاسم عبر معركة وصفها بأنها ستكون “النهائية”.
ويمثل هذا التحرك استمرار لنهج المعارضة السياسية في الضغط على النظام الحاكم خلال الآونة الأخيرة؛ حيث خرج أكثر من (10) آلاف شخص إلى شوارع العاصمة “داكار” في أول يوم من الاحتجاجات التي اندلعت مع بِدء محاكمة زعيم المعارضة السياسية “سونكو” في مارس الماضي، والتي أسفرت عن اعتقال أكثر من (400) شخص، وهو ما أعاد إلى الأذهان تزايد وتيرة الاحتجاجات بشكل كبير في جميع أنحاء البلاد من قبل المعارضة السياسية ضد النظام الحاكم في عام 2021، والتي وصفت بأنها أسوأ أعمال عنف هزت السنغال منذ سنوات، والتي وقعت بعد اعتقال زعيم المعارضة السياسية “سونكو” لإخلاله بالنظام العام بينما كان في طريقه للامتثال أمام المحكمة في قضية تهمة “الاغتصاب”، والتي نتج عنها سقوط ما لا يقل عن (13) قتيلاً على الأقل.
2– اتساع دوائر الاضطرابات الداخلية في الدولة: يعزز من ذلك استمرار تبادل الاتهامات بين النظام الحاكم والمعارضة السياسية؛ حيث يتهم الأول زعيم المعارضة السياسية “سونكو” بالسعي لشل البلاد وإثارة موجات الغضب في الشوارع في محاولة للهروب من العدالة. وفي المقابل، تتهم المعارضة السياسية الرئيس الحاكم بالسعي لاتخاذ كافة التدابير الممكنة لإقصاء المنافسين المحتملين له في الانتخابات المقبلة؛ من أجل تأمين الاستمرار في السلطة بالمخالفة للدستور القائم في الدولة. وقد يكون هذا هو ما دفع زعيم المعارضة السياسية “سونكو” إلى توجيه دعوة لأنصاره للاستمرار في المقاومة والاحتجاجات الجماهيرية، والقيام بعصيان مدني في الدولة، وهو ما جاء رد فعل على رفضه حكم محكمة الاستئناف الصادر بحقه في قضية “التشهير” في مطلع مايو 2023؛ حيث أكد مواصلة مساعيه للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
3– تصعيد النظام الحاكم إجراءاته الحازمة لمواجهة المعارضة: ويرتبط ذلك بإعلان الحكومة السنغالية عدم التهاون على الإطلاق بشأن مواجهة تصاعد موجة الاحتجاجات المتزايدة من جانب المعارضة السياسية، ولا سيما بعد إعلان زعيمها تحركها في مسيرة حاشدة نحو العاصمة “داكار” في الآونة الأخيرة.وقد تسبَّبت هذه التصريحات في خلق إزعاج كبير للسلطات السنغالية التي أعلنت، على لسان المتحدثة باسم الحكومة ووزير التجارة “عبده كريم فوفانا”، تبني أقصى درجات الحزم تجاه من يفسدون النظام العام، وتأكيد أن الحق في التظاهر في السنغال مكفول للمواطنين، لكن في ضوء احترام القوانين واللوائح، والتشديد على الحفاظ على حالة النظام العام بأي ثمن.
وختاماً، يمكن القول إن الرؤية المستقبلية للمشهد السياسي في السنغال تطرح ترجيح استمرارية حالة عدم الاستقرار الداخلي التي قد تدفع الدولة إلى تداعيات غير مأمونة العواقب، ولا سيما في ظل رفض المعارضة السياسية الانخراط في الحوار السياسي الذي دعا إليه الرئيس “سال” إلا بشروط مسبقة من جانب، واستمرارية حالة الضبابية بشأن موقف الرئيس السنغالي من الترشح في الانتخابات الرئاسية في مطلع العام المقبل من جانب آخر، وهو ما سيدفع المعارضة السياسية إلى التمسك بمواقفها القائمة على ممارسة مزيد من الضغوط على النظام الحاكم؛ وذلك عبر الدعوة لاستمرار حركة التظاهرات والاحتجاجات في مختلف أرجاء الدولة، بل ربما تتجه نحو دفع الشارع السنغالي للتحرك باتجاه فرض حالة عصيان مدني لتضييق الخناق على النظام الحاكم.
“إنترريجونال”
للتحليلات الإستراتيجية